خاص ليبانون فوكس – حوار مريم بيضون
في زمنٍ مَزَّقَتهُ الانقسامات وتهاوَت فيه جُسور التواصُل بين الناس، خَرَجَ من قلب الأزِقَّة رجُل لم يسعَ إلى زعامة، بل حَمَلَ رسالة وَصْل. لم يُجاهِر بانتماءٍ طائفي، بل صَدَحَ بإسمِ الوطن. لم يُلَوِّح بِشِعارٍ حزبي، بل رَفَعَ راية واحِدة تجمَع الجميع: راية الرياضة.
هو رَجُلٌ آمَنَ أنَّ المُدرَّجات قد تتحوَّل إلى منابِر، يعلو فيها صوت الحق حين يخفت الكلام، وأنَّ الجماهير قادِرة على رفع اسم لبنان عاليًا حين يصمُت الآخرون.
لَم يَخِض المعركة من أجل مَجدٍ شخصي، بل ليعطي مدينته وأهلها حقَّهم، وليحمي أحلام الأطفال التي كادت أن تُسحَق تحت وطأة السياسة والصِّراعات.
هو عمر غندور، ذلك الرَّجُل الذي لم يسعَ إلى الأضواء، بل كانت الأضواء هي التي سَعَت إليه.
كرَّسَ سنوات عمره لنادٍ عَشِقَهُ، فحوَّلَهُ إلى وطنٍ صغير، وإلى قِصَّة تُروى بِشَغَفٍ من قِبَل مُحبّيه.
لم يَكُن مُجرَّد رئيس لنادي النجمة، بل كان نجمًا يتلألأ في قلبه، ظِلًّا وفِيًّا في مُدرَّجاتِه، وضميرًا ينبُض في كُل هتاف يعلو للحياة. وتكشف مسيرته بوضوح أنَّ كرة القدم كان هدفها الحقيقي الإنسان.

عندما تسأله عن طفولته، يبتسم بلطف ويُخبِركَ أنَّ نشأته كانت كأي طفل في عائلة بيروتية محافظة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. لم يعرف غنى مُبالَغًا فيه، ولا حاجة. بيت بسيط ومُستقرّ، يحتضن قِيَمًا كافية لبناء رجال.
والده كان صناعيًّا، وَرِثَ هذه المهنة عن والده، لِيُكمِل مسيرة العائلة في هذا المجال.
أمَّا عمر غندور، فبدأ تعليمه في مدرسة “بابا رشاد” التابعة للمقاصد، حيثُ تابع دراسته حتَّى نال شهادة السرتيفيكا. بعد ذلك، انتقل إلى مدرسة الفرير في الجميزة، حيث تابع دراسته حتَّى نيل شهادة البريفيه، قبل أن يُكمِل مشواره التعليمي في مدرسة الـ IC.
منذ طفولته، جَذَبَتهُ عوالِم الرياضة، وكان شغفه الأكبر بالفروسية.
في عمر الخامسة عشرة، وقع في حُبّ الخيل وسباقات الفروسية، رغم أنه لم يمتلك حينها الوسائل لتحقيق حلمه. ومع مرور الوقت وتحسُّن أوضاعه المادية، عاد إلى ذلك الحلم، فاقتنى حصانين وشارك بهما في البطولات، ليعيش جزءًا من شغفه. لكن الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 سرقت كل شيء، ذهبت الخيول، أُغلِقَت الإسطبلات، وتلاشى الحُلم تحت غبار المعارك ودخان النار، وبَقِيَت الأبواب مُوصدة إلى الأبد.
ثُمَّ جاءَهُ اتصال غيَّرَ مسار حياته.
كان على الطرف الآخر ابن عمِّه، سمير غندور، يطلب منه المساعدة في إدارة نادي النجمة.
لم يَكُن عمر غندور مُلِمًّا بتفاصيل النادي، وكان مُنشَغِلًا حينها بالفروسية وعمله، لكنَّهُ وافَقَ على العرض، واستَلَمَ المهمَّة، ومنذ تلك اللحظة، تعلَّقَ بالنادي، وسرعان ما أدرَكَ أنَّ هذا الطريق ليس مُجرَّد رياضة، بل وسيلة حقيقية لخدمة مُجتمَعِه، وفضاء لجذب الشباب نحو الرياضة، بعيدًا عن الانحراف والمُوبِقات.
حين التَحَقَ بالنادي، لم يكن هناك “نادي” بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل مُجرَّد اسم يتردَّد وشُهرة مُتفرِّقة، بلا هيكل إداري مُنظَّم، ولا قاعدة جماهيرية واضِحة، ولا رؤية رياضية مُؤسَّسيَّة.

بدأ العمل بشكل جدّي لتأسيس جمعية عمومية، وتشكيل لجان مُتخصِّصة، ووضَعَ أُسُس إدارية صَلبة تُعيد للنادي مكانته.
لم يَكُن وحده في هذا المسار، بل جَمَعَ حوله لجنة إدارية مُتجانِسة، ولجنة فنّية، وإدارة للملاعب، وفريق عمل مُتناغِم يُؤمِن مثله بأنَّ الرياضة ليست مُجرَّد لعبة، بل مسؤولية اجتماعية وثقافية.
وللمرة الأولى في لبنان، تمَّ إقرار رواتِب شهرية للاعبين، إلى جانِب مُكافآت للفوز، وتكريم للتميُّز، في خطوة كانت بمثابة ثورة حقيقية في عالَم كرة القدم اللبنانية.
تحوَّلَ نادي النجمة في عهده إلى نادي للوطن، لا لطائفة أو فئة، لأنَّهُ كان حريصًا على أن تضُمّ اللجان الإدارية جميع الانتماءات، وعلى أن تكون المُدرَّجات مِساحة جامِعة لِكُلّ اللبنانيين.
لَكِنَّ حلمه الأكبر لم يَكُن محصورًا بالفوز في البطولات، بل ببناء مُدرَّجات تختصر الوطن، لا تنقسم على صورة طوائفه.
كان حريصًا على أن يكون جمهور النجمة صورة مُصَغَّرة عن الوطن، يجلس جنبًا إلى جنب، مُختلطًا ومُتّحدًا، يهتفون جميعًا لفريق واحد اسمه “النجمة”، بعيدًا عن الانتماءات الدينية والطائفية والسياسية.
وكان يُردِّد دائمًا بابتسامة: «أتذكَّر جيدًا يوم كان جمهور حزب الله وحركة أمل يتخاصَمون خارِج الملعب، لكن ما إن يدخلوا إليه، يُصبِحون نجماويين فقط.»
في نَظَرِه، كانت الرياضة الجماعية أكثر من مُجرَّد لعبة، كانت وسيلة لصناعة الوحدة الوطنية، وجسرًا لحماية الشباب من الانقسامات والانزلاق نحو المُوبِقات.
حَرِصَ على أن تعكس اللجان الإدارية داخل نادي النجمة صورة لبنان الحقيقي، بتنوُّع طوائفه ومُكوِّناته، إيمانًا منه بأنَّ ما يُبنى في الداخل ينعكس حتمًا في الخارج.
يؤسِفُه اليوم أن يتمّ ربط اسم النجمة بمرجعية سياسية أو طائفية معينة، إذ يعتبر غندور أنَّ ذلك أشبه بعملية “قوقعة” تُضَيِّق أُفُق النادي وتُشوِّه رسالته.
وكان يقول دائمًا: «أتمنى على اللجان الإدارية الجديدة أن تنفتح مجددًا. ولو كنت مسؤولًا في وزارة الشباب والرياضة، لَفَرَضت على جميع الأندية أن تكون لجانها الإدارية مُختَلَطة، لأنَّ الرياضة قادِرة على جمع الشعب أكثر من أي خطاب سياسي.»
ورغم علاقته الوطيدة بجميع السياسيين، إلَّا أنَّ نادي النجمة لم يُحسَب يومًا على طرف دون آخر، ولم يُفَضِّل أحدًا على أحد. كان يستخدم تلك العلاقات لخدمة النادي فقط، بعيدًا عن الاصطفافات والانقسامات.
وقد أثمرت النتائج، إذ في أوج أيامه، بلغ جمهور النجمة حوالي 75% من جمهور كرة القدم في لبنان. جمهور لم يكن مُجرَّد مُشجِّعين، بل حركة شعبية نابِضة بالحياة، تُؤمِن بأنَّ الفوز في الملعب هو أيضًا انتصار على الانحراف والضياع في الشوارع، وهو الهدف الأسمى الذي آمن به وسعى إليه من خلال الرياضة الجماعية.
بعيدًا عن ملاعب الرياضة وضجيج المُدرَّجات، كان الحاج عمر غندور زوجًا وأبًا، لكن ليس “زوجًا عاديًا”.
تزوَّج عن حُبّ حقيقي، لا عبر زواج تقليدي.
تعرَّفَ إلى زوجته حين كانت في السابعة عشرة من عمرها، وهو في العشرين، وجمعتهما ذكريات جميلة، من لعب كرة السلَّة إلى نُزهات البحر.
تزوَّجا عندما بلغ الثالثة والعشرين وكانت هي في العشرين.
يَصِف غندور سنوات زواجهما التي امتدّت 33 عامًا بأنها الأجمل في حياته، أنجبا خلالها ثلاثة أولاد: عبد القادر، ماهر، وعامر، وبقيت تلك الأيام في ذاكرته علامة مُضيئة لا تُنسى.
وهو لا يزال يتذكَّر زوجته الراحلة بابتسامة يغلبها الحنين، وكأنَّها لم تُفارِق قلبه يومًا.
شكَّلَ زواجه شراكة حقيقية، وأسَّسَ عائلة مترابطة ورياضية بامتياز، حتى أن أبنائه أنشأوا فريقًا لكرة القدم حمل اسم “We Are United”. ومع ذلك، لا يُخفي أن التزامه الكبير تجاه نادي النجمة والعمل استنزف جزءًا من الوقت الذي كان يجب أن يمنحه لعائلته، ويُعبِّر عن ذلك بحسرة قائلاً: «كان يجب أن أعتني بعائلتي أكثر.»
ورغم انشغالاته، بذل جهده دائمًا ليبقى قريبًا منهم ويُعوِّض ما استطاع من وقت وحضور. وهو يعتبر أنَّ الخسارة الأكبر في هذا البلد ليست خسارة المال أو الفُرَص، بل خسارة العقول والطاقات البشرية، التي تُهاجِر وتترُك فراغًا لا يُعوَّض.
لم يكن عمر غندور بعيدًا عن السياسة، لكنَّهُ لم يكن سياسيًا بالمعنى التقليدي للكلمة. حمل السلاح حين شعر أن الحق يُهان، وحين رأى أن الدفاع عن المظلوم واجب، وذلك بعد نكبة عام 1948، يوم احتُلَّت أرض فلسطين، وارتُكِبَت المجازِر، وطُرِدَ أهلها الأصليون من بيوتهم وأراضيهم.
لم ينسَ مجزرة دير ياسين، ولا ما تَبِعَها من ظلم واحتلال وتشريد.
ورغم حمله للبندقية، ظَلَّ ضميره حيًّا، ولم يسمح يومًا للسِّلاح أن يطمس إنسانيته. كان مع الحق في كُلّ أشكاله: لبنانيًا، عربيًا، دينيًا، وإنسانيًا. وكان يُردِّد دائمًا: «بين الحق والباطل، لا خيار لي إلَّا أن أكون مع الحق، وأتحالَف مع أي جهة تُساعِد على إزالة الباطل.»
في زمنٍ طغى فيه منطق القوة والسِّلاح، بقي غندور مُصِرًّا على أنَّ منطق الحق هو الذي يجب أن يسود، ولو طال الطريق.
عندما قرَّرَ عدم الترشُّح للجنة الإدارية في نادي النجمة عام 2003، لم يُعلِن استقالته، بل شَعَرَ أنَّهُ قدَّمَ كُلّ ما لديه، ورَغِبَ في ترك المجال للشباب ليمنحوا النادي طاقاتهم ويُضيفوا ما يُحِبّون. إذ كان يقول: «حان الوقت ليُمنَح الشباب فُرصتهم، كما فَعَلت أنا في السابق.»
وكان يتجنَّب حُضور المُباريات احترامًا للإدارة الجديدة، حتى لا يُحرِجها، خاصة أنَّ الجماهير كانت لا تزال تحيط به وتلتف حوله. ورغم ابتعاده، ظَلَّ يُتابِع أخبار نادي النجمة عن كثب من بعيد.
عندما يُسأَل عمَّا لو عاد به الزمن إلى الوراء، يُجيب بأنَّهُ سيُعيد نفس مسار حياته، ورُبَّما يتجنَّب بعض الأخطاء التي وَقَعَ فيها. ومع ذلك، يبقى مرتاح الضمير. لقد بذل جهده، وعمل بكل استطاعته، وترك بصمة لا تُنسى في الوجدان الرياضي والوطني اللبناني.
كانت رسالته واضِحة وصريحة: «لا وطن حقيقي من دون إنهاء الطائفية السياسية التي تُقيِّد الإنسان وتمنعه من الانتماء الكامل لوطنه، وتجعل انتماءه محصورًا بطائفته فقط. لبنان لن يُبنى إلَّا إذا قرَّرَ الشباب تغيير هذا الواقع الجذري لا الإكتفاء بالمُعالَجة المُؤقَّتة، والإخلاص في العمل هو الأهم لتحقيق هذا التغيير. لا تنتظروا أحدًا، كونوا أنتُم التغيير، فمِن دون جهودكم لن يتغيَّر شيء.»
كان يُؤمِن أنَّ النيابة والمناصِب العامة ليست تشريفًا بل تكليفًا، ومسؤولية لمن يستلمها خدمةً للوطن والمُواطن.
ويُكرِّر دائمًا: «النيابة ليست نمرة زرقاء، النيابة مسؤولية لخدمة الناس، لا مَنصِب للتفاخُر.»
وفي خِتام حديثه أكَّدَ على أنَّ: «لا وجود لما يُسمَّى بالمصلحة الخاصة، بل هناك فقط مصلحة وطنية، ومِن دونها لن نتمكَّن من الخروج من أزمَاتنِا.»
